رحلة الأمراض المنتقلة من الحيوانات (zoonosis) إلى شركات الدواء ..
في أوربا حيث كانت القارة مكتظة بالسكان كانت أيضاً مكتظة بالحيوانات إلى درجة أن بعضها كان ينام في نفس مكان الانسان و هذا ما أدى إلى ظهور أمراض بشرية أصلها فايروسات سابقة كانت تصيب الحيوان فقط و لكن كثرة الاحتكاك ممكن ينتقل فايرس حيواني و يستوطن انسان واحد و ينتشر عن طريقه هذا الفايروس إلى جميع الجنس البشري , و لسبب غير معروف هناك فئة بسيطة أحياناً ما يقدر أن يتمكن منها الفايرس (مثل الإيدز مع بعض البشر اللي لا يمكن أن يستوطنهم).
في زمن قديم طور الأوروبيين تحديداً مناعة ضد بعض الفيروسات لكنهم ظلوا يحملوها معهم حتى أثناء غزواتهم للدول البعيدة وصولاً إلى أمريكا و بما أن السكان الأصليين (الهنود الحمر) كانوا أصلاً منعزلين عن العالم لأن الانسان الحديث (هوموسيبين) انتقل لها كأحد آخر القارات و استقر هناك و بعدما انفصلت آسيا عن أمريكا الشمالية بسبب ذوبان الجليد صار من المستحيل أن يلتقي سكان تلك القارة بسكان القارات الأخرى حتى وصول كولومبوس إلى أمريكا الشمالية التي لم يعرف بوجودها كقارة أصلاً و ظن إنها الهند و أطلق عليهم لقب (الهنود الحمر) و لأن ذلك اللقب يعتبر إهانة فسأميهم هنا السكان الأصليين. لك أن تتخيل كيف إن ضحايا الحروب بين الأسبان و الأمريكيين الأصليين كانوا أقل من الذين ماتوا نتيجة انتقال أمراض الأوربين إليهم و ذلك لأن مناعتهم لم تكن مستعدة لذلك!
بعض الجراثيم تكون بانتظار البشر ليدخلوها بأنفسهم مثل السالمونيلا باللحم و دودة الخنازير و الأنيساكياسيس من السمك الني في السوشي مثلاً , بدون تناول متعمد من البشر لتلك الأشياء لا تنتقل تلك الجراثيم (ساستخدم الجراثيم هنا كمصطلح يغطي البكتيريا و الفايروسات) .. أما الحال مع فايرس كورونا فالأمر لا يحتاج إلى كل هذا التخفي فالعطاس و السعال يكفيان للانتقال إلى شخص آخر.
و إذا كانت التطعيمات هي أسوء شيء قدمه البشر إلى الجراثيم .. فأعظم هدية قدمها البشر للجراثيم هي (المدن) .. بيئة كثيفة و مزدحمة و (في السابق) الصرف الصحي أسوء بكثير!
و بينما الأمريكيين الأصليين كانوا هم ضحايا الجراثيم من الأسبان , شرب الأوربيين من نفس الكأس من خلال الحمى الأسبانية في ١٩١٨ التي قلت حوالي ٣٠ مليون انسان! أي أكثر من ضحايا الحروبين العالميتين في وقت لم يتوفر فيه الطيران التجاري!
و حتى تتحول الجراثيم إلى أوبئة تحتاج إلى أربع شروط:
١- كم درجة خطورتها.
٢- قوتها في ايجاد ضحايا جدد.
٣- سهولة الانتشار.
٤- مقاومتها للتطعيمات.
الفايروس الأسوء هو الذي لا يكون مميت بشكل كبير مثل الإيبولا .. فبهذه الطريقة لن ينتشر بسرعة مثلاً.
تاريخياً الجدري كان يمتلك هذه الشروط و كان الأكثر فتكاً بتاريخ البشر يقتل ٣٠٪ من المصابين به و على مر الزمن قتل حول ٥٠٠ مليون!
أحد الألمان أصيب بالجدري عائداً من باكستان في السبعينات و في المستشفى حيث أودع بمجرد أن فتح النافذة للتدخين انتقلت العدوى ل١٧ شخص!
لحسن الحظ إن الجدري لم ينتقل إلى الحيوانات و أختار المستضيف الخطأ (البشر) و اختفى من على الأرض كما أعلنت منظمة الصحة العالمية سنة ١٩٨٠ .. لكن بقت عينتان منه في أمريكا (جورجيا) و روسيا (سيبيريا) لم يتخلصا منها رغم المناداة بذلك.
بعد انتشار خبر فايروس كورونا زاد البحث عن فلم contagion الذي يحمل فكرة مرعبة بنفس ما صرح به بيل غيتس حول الجراثيم العالمية "خطر كبير و نحن غير مستعدين له"
الأخبار حول كورونا تعصف بالبشر ما بين الخوف و الأمل .. فمثلاً التطعيمات عادة ما تأخذ مدة طويلة بعضها لسنوات و بعضها لا يصل إلى حل مثل الوضع مع فيروس نقص المناعة المكتسبة..
لكن علاجات لزيكا و ايبولا و سارس و ميرس تمت بالفعل .. لكن العملية نفسها طويلة لتفادي مخاطر أكبر على البشر قد تطول الموافقات لو تم تسريعها بشكل صاروخي (كما صرح أحد كبار المسئولين في أمريكا) إلى سنة و نصف .. بالإضافة إلى افتقار المصانع إلى قدرة الانتاج العالي و الأسوء إن الحكومات قد تفرض حظر قانوني على تصدير العلاج لو اكتشف في دولتها لأن مواطني الدولة أولى بالعقار.
أفضل الأخبار إن هناك تجارب ستقام بعد أيام على مرضى في أمل لأن يكون العلاج فعال كما إن بعض الشركات أدارت ظهرها و اتجهت إلى الصين كي تسرع بالتطبيق.
الآن لماذا لا تتحرك أكثر شركات الأدوية و توفر العلاج؟ هذا السؤال يشبه لو تسأل بنك تجاري : لماذا لا تساعد الفقراء بإسقاط القروض عنهم؟ شركات الأدوية تدخل في مخاطر في صرف الملايين على تجارب لعلاجات و بالنهاية قد لا تخرج بعلاج للمرض. الفشل يعني محاسبة مجلس الإدارة من قبل حملة الأسهم. مثال حقيقي, شركة أفينو للدواء ظلت تعمل لمدة ٧ سنوات لانتاج علاج لسرطان الكبد و بعد أمل كبير من المستثمرين وصل قيمتها إلى المليار دولار و بعد جهد جهيد خاب الأمل عندما رفضت منظمة الصحة و الدواء الأمريكية هذا العلاج و انهار سهم الشركة الشركة و فقدت ٧٠٪ من قيمتها السوقية و تسرح ٦٢٪ من موظفيها!
شركات الأدوية كأي شركة تريد تعظيم أرباحها .. الأرباح الأفضل تأتي من علاج لمرض مزمن على بقعة كبيرة من العالم.. مثلاً تخلت أكبر ١٨ شركة دواء عن صناعة المضادات الحيوية اليوم (بإستثناء شركتين) لأن المضادات الحيوية غير مربحة فما أن تتعافى لن تطلب المزيد مقارنة بأدوية مرض السكر مثلاً..
تخيل تصرف الملايين ثم يأتي العلاج من شركة أدوية منافسة و ينتهي المرض كما انتهى الجدري .. هذه الملايين تبخرت و عليك أن تبرر للمستثمرين ذلك. مالم يكن هناك دعم حكومي أو من منظمات (مثل ما فعل بيل غيتس بتبرعه ب١٢ مليون لمكافحة الأمراض الوبائية) فإن التعويل على الشركات وحدها أمر صعب و خطر على البشر أصلاً.
قبل سنوات ظهرت في اليوتيوب محاضرات للدكتور ميشيل سانديل عن الأخلاق و أحدثت ضجة كبيرة لأن فيها أسئلة صعب أن تجاوب عليها مهما كان جوابك و مهما كان تبريرك .. أذكر أحدها كان لو أن هناك غرفتين واحدة فيها شخص سيموت حتماً و لكنه يمتلك كلية ممتازة و اثنان آخرين لا يعانون من أي شيء إلا من الفشل الكلوي و إذا لم يتم التبرع لهم فإنهم سيموتون. الآن في الوضع الطبيعي سيموت الجميع , فالسؤال هل من الأخلاق أن تأخذ كليتي ذلك المريض الذي سيموت حتماً و تعطيها للأثنين و تنقذ حياتهمها لأن الأول سيموت لا محالة؟ و هل ستجروء كطبيب على فعل ذلك و هو قتل صريح؟؟
الحقيقة إن هذا السؤال لا يأتي كنوع من الترف الفكري لأن اليوم يظهر مجدداً على السطح و كوني لا أعمل في المجال الطبي فأنا لا اعرف الحقيقة إن كان هناك بروتوكول لذلك.
أعود لمرض الكورونا , عدد كبير من المصابين و عدد محدود من المستلزمات الطبية .. من يعطى الأولوية ؟ مسألة أخلاقية أخرى شائكة أعان الله الطاقم الطبي عليها.
بعد كارثة كاترين و موت الكثير من المرضى بالمستشفيات حتى , استعدت أمريكا جيداً لمثل هذه المواقف و قامت توفير مليار دولار سنوياً للمستشفيات للاستعداد للكوارث. مبلغ مثل هذا أكثر حتى من ميزانيات الصحة لبعض الدول الأفريقية!
كانت الصين غاضبة لأن الكل يتفاداها و يتفادا رعاياها , مثل الأب الغاضب من الناس الذين ينكبون تنمراً على أبنه المقزز و لكنه اليوم بدأ بالانتشار شيئاً فشئياً فكيف سيغلق العالم الباب على نفسه؟!
منذ عام توقع عملاق مايكروسوفت بيل غيتس في تنبؤات اعتبرها البعض مشؤومة انتشار وباء فيروسي وقال
"هذا أكبر خطر و نحن غير مستعدين له"
أما نحن علينا تجنب أشهر عشرة أسباب للعدوى.. و غسلهم بالماء و الصابون حيث تشير أحد التجارب إلى تفوق الصابون على المطهر اليدوي.