التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لكن الأعراف تنتصر

 


رغم عشرات المرات التي ذهبت فيها إلى المقبرة لازلت لا أستطيع أن أنسى صديقي هذا تحديداً. لكن قبل أن أشرح لكم قصته دعني أشرح البروتوكول المتبع في المقبرة على الأقل عندنا في الخليج , ولأن البروتوكول هذا لا يطبقه سوى الرجال ولا تدري النساء عنه شيء فيجب علي أن أشرحه لهن.

تذكرون عندما يدخل العريس الجديد كل مرة مرتبك إلى قاعة الأفراح المكتظة بالنساء؟ ويبدو لكم الأمر في غاية الغرابة لأن النساء هذه أرضهم و هذا جمهورهم أما الرجل (العريس هنا) يتحول هذا الأمر إلى أول تجربه له في حياته فلا يعرف ماذا يفعل خاصة و إنه فجأة تحولت كل الأنظار نحوه بانتظار أي خطأ منه ناهيك عن الحسابات الأخرى التي تقيس الشكل و غيره. 

نفس الشيء تقريباً في المقبرة لكن الأمر أخف و سطوة نوع واحد من الشعور عكس حفل الفرح. يغسل الميت أول و يقوم قريبه (غالباً إبنه) بعمل ذلك لأول مرة ثم يسرع بجثمانه ليصلى عليه ثم يحمل بسرعة إلى القبر و لأن الموتى كثر يجب أن يعرف رقم القبر ثم هناك طرق خاصة للدفن توجيه الميت و ترصيف الطابوق بطريقة معينة ثم الطين بطريقة خاصة ثم التراب و حفظ رقم القبر و كل هذه الأمور تكون جديدة في الغالب على هذا الفتى. 

بعد ذلك يسرع الجميع نحو الاصطفاف في قاعة لتلقي العزاء و هو بروتوكول اجتماعي أكثر منه ديني. رغم عشرات المرات التي ذهبت فيها إلى المقبرة لازلت لا أستطيع أن أنسى موقف صديقي الذي توفيت أمه التي كانت كل شيء بالنسبة له, اتبع كل البروتوكول السابق حتى وصل إلى مرحلة الذهاب إلى تلقي العزاء. و هنا رفض التزحزح عن قبر أمه منخرطاً ببكاء شديد. كان من حوله من أقربائه يهمسون في أذنه بأنه يجب أن يذهب ولا يحرجهم في التأخر لأن الناس تنتظر هناك. لكنه استمر بالبكاء. أكاد أسمع حديثه الداخلي وقتها و هو يلعن كل الأعراف الإجتماعية , المهم هي أمه و هو يفقدها بشدة ولا وزن لأي من تلك الأعراف. 

لم يتكرر الأمر علي نفس المشهد كثيراً , لازال الناس تعطي الوزن الأكبر للعرف. حتى توفى لي قريب وكان الناس الأقرب له يحرصون علي بشدة بأن لا أنسى أن أقدم العزاء لفلان و فلان. تملكني غضب و إن سيطرت عليه و قلت مراراً بأن الراحل بحاجة إلى الدعاء أكثر من أي شيء آخر أما العزاء للأحياء فلا حاجة له و همست لنفسي تباً للأعراف التي تسيطر على الناس. 

وقتها عادت لي نفس الصورة أعلاه , نفسه صديقي الذي رفض أن يتزحزح عن قبر أمه , نفسه الذي بصق على كل الأعراف لأن هناك ما هو أهم.