في بداية حياتي سافرت بعيداً .. بعيداً جداً الحقيقة. كان ذلك في بداية الانترنت , التواصل ليس مستحيل لكنه كان أصعب بكثير من الوضع الحالي , يكفي أن تعلم بأن الآيفون لم يولد بعد. كنت في محيط من الأصدقاء منذ طفولتي , أصدقائي هم أصدقاء المدرسة و نفسهم حتى ما بعد المدرسة , لأنهم من نفس المنطقة أصلاً. بدون مقدمات هكذا سافرت إلى هناك ثم انقطعت الأخبار و التواصل بيننا. كان بالإمكان أن نتواصل هاتفياً إلا إن الموضوع صعب ناهيك عن كونه مكلف. جزء في داخلي كان ساخط بشدة , لأنهم لم يسألوا عني (والحقيقة أنا لم أسأل عنهم أيضاً) فار في الغضب حتى انهلت على أحدهم يوماً باللوم و العتب الشديد على هذه القطيعة و كأني كنت شبح بينهم. ذاك الحادث كان انعكاس واضح لحداثة سني و نقص الخبرة في الحياة. دعني أوضح ذلك أكثر ..
قبل سنوات قليلة كنت أحتاج بشدة إلى الذهاب إلى المطار لسبب عدم وجود سيارة تقلني إلى هناك و اتصلت على أعز أصدقائي الذي يشاركني معظم أفكاري و أحادثه كل يوم بلا انقطاع (حتى اليوم بالمناسبة) و ربما هو أقدم صديق. طلبت منه أن يوصلني فاعتذر برقة و قال لي إن هذا مع شديد الأسف يصادف موعد قيلولته! الأمر تكرر مع نفس الصديق في مواقف مشابهه. لكن لأني وصلت مرحلة ناضجة في الحياة تمكني من رؤية أمر غرس فينا بشكل خطأ حول العلاقات أستطيع أن أتفهم ذلك.
منذ الصغر يتكرر عليك مبدأ بأن تصادق الصديق المخلص الذي يكون لك عون في الصعاب و تستند عليه في المهام الصعبة. هذه النصيحة تتكرر كثيراً لكنها مع الأسف ليست دقيقة تماماً.
النكسات و الصدمات في الحياة لا تأتي كل يوم و إنما تحدث في أوقات بعيدة متفرقة. وجود صديق من هذا النوع أمر رائع و يبعث الطمأنينة في النفس و يجعلك ترى الدنيا بمنظور جميل. المشكلة إن معظم أوقات الحياة هي أوقات عادية. أحاديث عابرة , ضحك , مشاكل العمل , المستقبل , الهوايات , أفضل رحلات السفر .. إلى آخره. صديقك السند هذا لا يمكن أن يكون كل شيء في حياتك.
لأني استوعبت هذا المبدأ تماماً صرت أقلل معه توقعاتي في الحياة تجاه الناس. أحاول أن أضعها في الحد الأدنى. لدي صديقان على الأقل أستطيع أن أستند عليهم في الشدائد و المحن وأنا بالمقابل سأفعل نفس الشيء معهم و ربما أكثر. لكن هناك صديقي المرح الذي أحتاجه في حياتي ليضفي عليها متعة الضحك في الحياة , هذا الصديق لن أطلب منه مساعدة في مصيبة في الحياة. صديق آخر يشاركني الكثير من الهوايات لكني على يقين إنه لن يزيد عن ذلك مشاركة. آخر يسعدني حديثه المتواصل و شكواه حول كل شيء في الحياة لكنه مستمع جيد وأنا أشكو له و هذا كل ما أتوقعه منه. لا أرفع سقف التوقعات مع أحد كل هؤلاء أحتاجهم في مجالهم و هم كما أتوقع أيضاً يحتاجوني لنفس الغرض. لكن من غير المنطقي أن أترك هؤلاء من حياتي فقط لأنه لا يمكن الاعتماد عليهم في المصائب! معظم أيام الحياة هي روتين عادي. بدونهم ستصبح الحياة جداً مملة.
هكذا تعلمت بأنه من الرائع أن يكون هناك من يساندك و أن تبادله نفس المعونة لكن من الرائع أيضاً أن يكون لك أصدقاء لا يساندونك بالضرورة في المصائب و إنما فقط على روتين الحياة. سأقلل توقعاتي مع الجميع حتى أولئك الذين أتوقع وقوفهم معي في الشدائد, لأن للناس أعذار و طاقة و هذا ما يجعل الحياة تسير بشكل أفضل.