منذ زمن مر علي بروشور في الانترنت من النوع الذي عندما تقرأه تكتشف إن هذه الفكرة ليس فكرتك أنت وحدك و إنما يشاركك فيها الآلاف حول العالم. البروشور كان عن كيف ينظر الطفل لأبيه منذ الولادة و كيف يراه أعظم شخص في العالم ثم تتضاءل هذه الصورة مع مرور الوقت واكتساب ذلك الطفل خبرات حياتية خاصة به تتفوق أحياناً على أبيه و تهتز الصورة التي بناها و تتحول صورة الإبن إلى نظرة مختلفة تماماً عن والده من ذلك العظيم إلى الرجل العادي و ربما أقل. ثم يتقدم العمر بالولد و تعود صورة أباه بالنمو مرة أخرى بعد إدراكه الكثير من حكم الحياة إلى أن تعود إلى القمة و تصبح صورة (أبي هو الأعظم في العالم).
أقرأ مثلكم عن قصص أولئك الذين تركهم آبائهم منذ الطفولة تتولى أمهم شأن حياتهم بدون اتصال معهم على الإطلاق. للأسف هذه النماذج يوجد منها في الوطن العربي الذي نضرب به المثل على الترابط الأسري مقارنة بالغرب. مؤخراً سمعت حلقة في بودكاست (أصوات) عن قصة بنت فلسطينية تركها والدها مع أمها هي و أخوتها هكذا. رغم إنه لم يهاجر بل كان داخل الدولة! أأسف لحياة هؤلاء لكني أعلم أنهم الأقلية.
هناك درجة أقل و هي التي لم يرحل الأب لكن وجوده مثل وجود اللوحات المعلقة , للزينة فقط. أذكر قصة شخص أعرفه شخصياً إن زوجته أيقظته ليلاً لأن ابنتهم تعاني من حرارة شديدة فآثر النوم لأن النوم سلطان و لم يكترث كثيراً! أيضاً اعتبرها قلة.
ما أريد أن أريك إياه هو كيف الجانب الخفي من حياة الأب الحقيقي. حتى رحيل الأب لن يعرف الأبناء كل التضحيات الخفية للأب. الصورة أعلاه إلتقطت بشكل عفوي لعامل لطخ الاسمنت عينه و هو أمر سيء في العمل. طبعاً لن يزعج أبنائه بقصة مثل هذه لكنه سيسعدهم بمال يرسله إليهم نهاية الشهر.
أنا لا أعرف كمية الهم و القلق التي عانى منها أبي في مراحل مختلفة من حياته من أجلنا. أعرف إني لن أعرف ما حييت عن تلك الخيبات الداخلية. أعرف مدى الإزعاج و الصخب الذي كنا سببه بينما كان ينظر إلى صديقه الأعزب و قد حصل على قدره الكامل من النوم المشبع جداً ثم تاه يجوب العالم دون مسئولية على كتفيه.
أنا لا أعرف كم شخص دخل عليه أبي ليطلب منه موضوع يهمني , ربما كان رد الطرف الآخر بارد جداً و ربما لم يكن هناك رد أصلاً و إنما التجاهل التام لكنه لن يقول لي شيء من ذلك طيلة حياته لأنه يرى إن هذا هو دور الأب أن يتحمل ولا يشكو لإبنه ما يعانيه مع الناس و مع نفسه وكما يقول فؤاد فرحان (للأب حقوق كثيرة، وليس من بينها الحق في الانهيار والاستسلام).
عندما كان يدخل علينا بهدية أو ورقة أو إنجاز نحن نرى النهاية ولا نرى الغربلة التي سبقت كل ذلك. الموضوع كان شاق ولا شك خاصة في حياة تعج بالتنافس و الفوضى. لكني بدأت اليوم أفهم ذلك و أنا أعيشه و أقدره حق التقدير.
أباك ليس الذي تراه. ما تراه هو المحصلة النهائية من تعب و خيبات و قلق و تفضيل مصلحتك على راحته و راحتك على صحته و تعامل مزعج مع الناس و المسئولين حتى يحملك إلى النتيجة التي تهنأ بها.
غفر الله لآبائنا و رحم الله من رحل منهم.