التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ليتني ما عرفت

 



يعرف أي شخص جرب البناء من قبل أن هذه التجربة أقل ما يقال عنها إنها تحتوي على كم مهول من المعلومات من شتى التخصصات كلها توضع في مشروع واحد و مشروع بناء البيت لا يشابه أي مشروع آخر. دعني أشرح لك أكثر. لو اشتريت سيارة مثلاً فأنت تشتري منتج جاهز و يمكنك تجربته و سؤال من إمتلك نفس السيارة من قبل بل و حتى قبل هذا كله لربما كنت تعرف العلامة التجارية و تذهب بكل ثقة لشراء السيارة و أنت تعلم بأنها ستكون جيدة لأنها ببساطة نفس العلامة الممتازة السابقة.

أما المنزل فهو النتيجة النهائية لاختلاط عدة أفكار و معلومات متداخلة تبان نتيجتها في النهاية و أثناء هذا العمل الشاق فإن بعض الأعمال لا يمكن أن تصححها إن أخطأت بها و بعضها يمكن تصحيحه ولكنك ستدفع ثمن باهظ للغاية. لكن من يمكنه أن يتذمر من المعلومات في زماننا هذا؟

هذا المشروع بدأت فيه شخصياً و أنا أحاول أن أقبض على كل معلومة تقع تحت يدي و أتعلم تحت كبار المختصين فمن يريد أن يفشل في أكبر مشروع في حياته؟ وأنا حقاً ممتن لكل هؤلاء الذين وفروا الكثير جداً من معلوماتهم للناس لكن يبدو إني قد ابتلعت الطعم الخطأ!

عندما شربت كل تلك المعلومات تحولت نظراتي البريئة إلى نظرات يتطاير منها الشرر عند دخولي إلى أي مبنى. منزل والدي تحديداً صار أكبر ضحية لي لأنه أكثر مكان أقضي فيه وقتي. 

صبغ الألمنيوم سيء ما هذه الشركة التعيسة يا أبي؟

هناك خطأ في انعكاس الإضاءة على الأرضيات. كيف فات ذلك أبي!

يا إلهي عيني المحترفة لا تستطيع أن تحتمل ذلك الصبغ المتعرج إن هذا يجمع الغبار.

كيف تستخدم هذه الشفاطات بهذه الطريقة يا أبي .. هذا موضوع بديهي إسمع مني فأنا محترف

لقد خدعوك بسهولة بهذا المطبخ فسعره مكلف لكنه غير عملي .. فقط لو كنت قد بحثت مثلي يا أبي

وهكذا صرت أكتشف العيوب الكبيرة و الكثيرة لكن لم أنطق بحرف لأبي و إنما هو عتب في داخل نفسي. 

نعم تعلمت الكثير جداً في رحلة طويلة ولكن ماذا خسرت؟ خسرت راحة نفسية كبيرة كنت أعيشها و أنا جاهل. كان مجرد دخول البيت واستنشاق ذلك الهواء البارد كفيل بأن يجعلني أعيش في سلام. تبطحي في الأرض بين الوسائد كان مبعث كبير للراحة. لم أكن أهتم و لا حتى ألحظ الديكور أو الألمنيوم أو الأبواب أو أي من التفاصيل التقنية الكثيرة. وبالطبع لم أكن ألحظ تعب و مشقة أبي في رحلة البناء لوحده.

مقولة (الجهل نعمة) وإن كانت تقال كنوع من الشتيمة للطرف الآخر لكن في عمقها الجهل في كثير من الأحيان قد يكون نعمة. و ربما أختم بقصة حقيقية تؤكد ذلك المعنى عندما توفى أحد الأصدقاء لي بسبب ورم في دماغه (رحمه الله تعالى) و ذهبت بنفسي إلى الطبيب لاحقاً لأستفسر منه عن السبب وهو بالمناسبة أشهر الأطباء في مجاله فقال لي إن هذا الورم من النوع الذي لا يوجد له علاج و ربما كان رحمة من الله أنه علم عنه في وقت متأخر لأنه لو علم عنه قبل سنوات لعاش في اكتئاب شديد. كان الجهل نعمه في أوضح صورها.